أوراق المفرق – 10

لا تخلو سكينة مستشفى المفرق من مناوشات عابرة قد يكون سببه خط التليفون المشترك بين غرفتين حيث يتسابق مريضان للرد على مكالمة هي قطعاً لأحدهما، ثم أن بعض المرضى تأتيه مئة مكالمة في اليوم، والبعض قد لا يحنّ عليه أحد ولو بمكاملة واحدة، وعليه أن يتحمل رنين التليفون، وما أدراك ما رنين التليفون عندما ينتزعك من إغفاءة القيلولة اللذيذة، أو يوقظك من عز النوم في الليل، ورغم ذلك فإن الكثير من المرضى يبذلون من وقت راحتهم – الذي هم في أمس الحاجة إليه – الكثير الكثير سعياً وراء الحصول على تليفون أو تليفزيون (لزوم الوجاهة) وإدارة المستشفى تحاول بقدر الإمكان الاستجابة وفق مبدأ (منكم الصبر ومنا الوفاء).

كما قد يكون سبب المناوشة الوهم الناشئ عن التوقع، فأحد المرضى عندما علم أن جاره قد واتاه الحظ الحسن بتليفزيون أخذ يصيح من غرفته مطالباً بتخفيض الصوت علماً أن التليفزيون لم يكن قد تم توصيله بالكهرباء أصلاً.

ولم يكن لصاحبنا الذي تجاوز الستين من عمره والذي أزعجه صوت التليفزيون الذي لا يعمل، لم يكن له من حديث سوى حديث السفر إلى (كالكوتا) في الهند: “التذكرة جاهزة في جيبي، وقد حوّلت مئة وأربعين ألف درهم إلى (كالكوتا)… العروسة تنتظرني، وإذا ما أعجبتني في مئة غيرها… أول ما أنزل في الفندق راح آخذ إبرة بنسلين أصبح بعدها مثل الحصان.

وقد التقطتِ الممرضات الخبيرات بأنواع المرضى طرف الخيط، فاتخذن من العم الطيب تسلية يسألنه في الذهاب والإياب عن مواصفات العروسة وعن المهر وعن ترتيبات الحفل وهو يسعد بذلك كل السعادة.

وبعد كل جولة من جولات (كالكوتا) يسقط العم الطيب من الإعياء ويدخل في نوبة (كحّة) عنيفة تزلزل كيانه كله، علماً أنه مثل البيت المهدّم الذي هجره السكّان وأسلموه لعوامل الخراب، وهكذا لا يلبث أن يغفو كالقتيل وأحلام (كالكوتا) تداعب خياله.

أما العم (سالم صالح البريكي) الذي يحتل منتصف العنبر تماماً فإن مجالسته لا تُمل، فهو رحالة في الواقع وفي التاريخ، حدثني عن الجزر الإيطالية واليونانية في البحر المتوسط، وعن عمله في طبرق، وجولاته في شرق أوروبا، ولا ينسى رحلته في الخمسينات عبر سورية بعد أن وصل من إحدى جزر البحر الأبيض إلى اللاذقية فتعرف على سوري مضياف أخذه في سيارته الجديدة إلى دمشق، ويتذكر أنهما اشتريا جدياً في الطريق بأربع ليرات سورية وثم طبخه بليرة واحدة. ولا تزال ذاكرته تحتفظ بأبهى الذكريا لدمشق وقلاعها وقصورها ومتاحفها. ومن السياحة في الأرض إلى السياحة في التاريخ حيث روى لي قصة مقتل (عنترة) وحكمة (أبوزيد الهلالي) فيما يتعلق بأطايب العيش، ثم عرّج على عجائب إحدى جزر بحر العرب الواقعة أمام شواطئ (المهرة) اليمنية، فتحدث عن السراديب العظيمة والمياه التي تتدفق منها إلى مناطق بعيدة.

عصريات مستشفى المفرق وأسماره تحفر عميقاً في الذاكرة وكم تمنيت لو أن لدي موهبة (القص)… إذاً لأمتعت الناس بكل غريبة وعجيبة.

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s