أوراق المفرق – 6

هنيهات جميلة تمر بالمريض في المستشفى، صفاء عجيب، بصيرة نافذة، شريط من الذكريات العذبة يمرّ تحت عينين مغمضتين، صداقات جديدة تشبه صداقات الدراسة، لا غرض لها، فهي تتجمع مثل قطرات المطر واحدة واحدة ثم عشراً عشراً، فإذا بك أمام مجرى رقراق، وإذا المحيط الذي كان متجهماً بالأمس قد أصبح مثل مروج الربيع، مليئاً بالابتسامات، نابضاً بالتمنيات، تتساقط فيه الحواجز المصطنعة، وحقاً فإن الناس وحوش حتى يتعارفوا.

زميلي في الغرفة (أحمد السيد) أو (الحاج أحمد) كما درجنا على تسميته تحبّباً، رجل لطيف المعشر، خدوم، يعمل سكرتير مدرسة منذ أكثر من 20 عاماً، وقد جاء لإجراء عملية جراحية في القلب، وقبل ساعات من العملية وبإلهامٍ ما، طلب فحص السكر لديه علماً بأن كأس الشاي الذي يشربه يكون ثلثه من السكر الخام، وكانت النتيجة أن مستوى السكر في الدم فوق الأربعمائة وهو رقمٌ مخيف يدلّ على أن (الصديق اللدود) قد اقتحم حصونه منذ زمن ليس بالقصير… يا للهول يا (حاج أحمد)!

ويُقسِم (الحاج أحمد) أنه كان على ما يُرام ولا يشكو من شيء أبداً، وشيئاً فشيئاً يتأكد أن (الصديق اللدود) قد أعطى إنذارات: “… آه… صحيح أنا كنت أروح الحمام كثير… وأيوه فقدت من وزني 11 كيلوجراماً أخيراً… شوف يا أستاذ… حزام البنطلون كنت ألبسه للزينه واليوم…” يدخل يديه الاثنتين في هوة البنطلون على الخصر ليريني الفرق.

“ما عليش يا عم أحمد… انته قدّها وقدود، والحمد لله جت سليمة قبل العملية، وهو في أجمل من الرشاقة، دا الناس بيشتروها بفلوس”

ينظر الحاج أحمد إلى صينية الإفطار، رغيف أسمر حاف، وكأس زبادي خال من الدسم “حمية لأصحاب السكر” ويعلّق: “يا سلام يا جدعان، أنا كنت آكل ثلاثة أرغفة مع الفول والطعمية والمربى وما تيسّر من (الطرشي) الحار… تصدّق بالله يا أستاذ: كنت أنزل مع العيال يوم الخميس من الرويس إلى أبوظبي على (كنتاكي) طوالي في شارع حمدان، النفر بعشرين و “كل حتى الشبع” والنبي لو تشوف أكوام العظام مش حتصدق، نقعد ناكل من الساعة اثنتي عشرة إلى الساعة أربعة، وهات ياو ولد، نزل يا ولد، كلوا يا اولاد… وعينك ما تشوف الشر… خلاص (كنتاكي) ح يفلس”.

واليوم… يقلب الرغيف…”شايف يا أستاذ فضل، اللي ما ربته أمّه يربّيه المفرق… معليش يا عم أحمد، شدّة وتزول”.

حوالي الساعة الثانية عشرة ونكون قد أكلنا الوجبة الثانية الخفيفة (6 وجبات في اليوم). ونستعد للغداء، يقبل فريقي الطبي: الاستشاري (حيدر العطية) والدكتور (رحيل) والدكتورة (ريما العباسي) والدكتور (راشد) وممرضة، ما أشبههم بعائلة من البط الجميل ليس في البر وإنما في الماء، حيث الرشاقة والأبهة، (حيدر) في المقدمة وبجانبه على بعد خطوة الدكتور (رحيل) وعلى بعد خطوتين (ريما) و (راشد) وفي الخلف الممرضة… وأنا ممدد على السرير بصفتي (الوجبة الطبية). حقيقةً أن الإنسان ممتنٌ للأطباء والممرضات ولذلك المجهود الراقي الذي يبذلونه بنفوس طيبة. إن فَحْصَ مريضٍ واحدٍ مجهدٌ، فكيف بفحص العشرات ومحاولة تطبيب عقولهم قبل تطبيب أجسادهم.

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s