أردت أن أسمّي هذه اليوميات (أوراق المستشفى) ولكنني وجدت (المفرق) أكبر من مستشفى، فهو مدينة طبية متكاملة تقف كشاهد حضاري وإنساني يجتذب المرضى من كل فج عميق، كما أنه أصبح اليوم يتوسط سلاسل المدن الجديدة التي تنبت في محيطه القريب والبعيد فكأنه “واسطة العقد” كما كان يقول أجدادنا العرب، ولقد رأيت من نافذة غرفتي المحكمة الرتاج مبنىً جديداً آية في الجمال بني على نمط القصور الأندلسية، وقد اكتمل فتنة للناظرين، وقد درت حوله مراراً وتكراراً لعلي آتيكم عنه بخبر ولكنني لم أعثر بدليل… ففي ذلك المكان لا تجد من يتحدث العربية، وإن وجدت فما لهم غير “أرباب أنا ما في علم”. أما المسؤولون الذين لديهم العلم – وفوق كل ذي علمٍ عليم – فإنهم في شغل شاغل، وستكون سعيداً ومحظوظاً لو رمشك أحدهم بطرف عينه، أما أن يتحدث إليك ويأخذ ويعطي فذلك من باب الأحلام. وهذا طبعاً فيما يخصك كمريض، أما إذا تماديت وسألت عما لا يخصك عن مثل هذا المبنى، فساعتها سينطبق عليك المثل: “من تكلّم فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه”. لذلك أقول إنه مثلما مات سيبويه أشهر علماء اللغة العربية وفي نفسه شيء من (حتى) فإنني سيظل في نفسي قبس من الشوق لمعرفة كنه ذلك المبنى الذي بدا لي تحت أشعة الشمس الأولى وفي حمرة الغروب الذهبية كأنه ترجّل من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، وأن السندباد قد حمله على ظهره عبر البحار، ذلك أنني عاشق للجمال، أكان في عينين تسبحان في اللازورد أم في زهرة تغازل الأنسام أم في مبنى يفتن الزمان، ولا شك أن مقام المريض ومكان استشفائه هو جزء من العلاج، وذلك يذكرني بما كتبه أحد كبار العماء الأميركيين وهو يتحدث عن (الحيوان) القادر بغريزته التي حباه الله تعالى بها على معالجة نفسه بنفسه، وعلى أساس أننا نحن البشر جزء لا يتجزأ من مملكة الحيوان الكبرى، ولككننا فقدنا غريزة الاستشفاء، فقد ذكر أن الحيوان المريض يتوقف أولاً عن الأكل تماماً، ثم ينسحب عن القطيع ويتخذ له مكاناً رطباً على حافة ماء جارٍ أو في مهب الأنسام، وإذا ما تناول شيئاً فعلى غير مألوف كل يوم حيث يسعى إلى بعض خشاش الأرض بالغريزة الهادية التي يهتدي إليها أطفالنا فنمنعها نحن بثقافتنا المعلبة حتى يصبحوا (ألواحاً) مثلنا لا يكادون يتوقفون عن بلع الكيماويات وشفط المضادات الحيوية ومن ذلك أولئك الأطفال الذين يتجهون إلى قضم الجير من الجدران الأنيقة، أو أكل التراب ليعوضوا نقص الكالسيوم؛ حيث أن بناء العظام هو حجر الزاوية في النمو.
على كل حال، ها أنا ذا أجد نفسي وقد فلت مني الزمام قبل أن أبدا (أوراق المفرق) وأكرر اعتذاري عن أي ملاحظة لا شك أن دافعها الحب، لأن ما ينهض به مستشفى المفرق من مهام جسيمة تجعل من أي نقد (قرصة في ظهر الجمل) وياله من جمل رابض يخدم القوافل من السلع حتى رأس الخيمة وفي الأمثال: “لا تقل للجمل در وعينه أكبر من عينك”.