وخزة ألم (سعاد الصباح)

سعاد الصباح
سعاد الصباح

في الصيف الماضي التقيت الدكتورة الشاعرة سعاد الصباح في منتجع (شامبينيز) في بريطانيا، وبدت لي – وهي غارق في السكينة والتأمل المصحوب بنوع من الشرود – كأنها تستعيد شريط حياتها تتأمله بعمق وتتفحصه بدقة، ولكم شعرت في أعماقي أن هذا الشريط يحمل من مساحات الألم أكثر مما يحمل من مساحات الفرح، والشعر الذي تتوهج به هذه المرأة – الاستثناء – ما هو إلا أحد أنجع العلاجات لتلك الشخصية الحساسة المرهفة المليئة بالأدب الجم، حتى أنها حين تحيّي أحداً من بعيد تقوم من على كرسيها، علماً أنها بمسيس الحاجة للراحة، وقد قصدت ذلك المنتجع أساساً من أجل الراحة والسكينة.

ولكم كانت كريمة حين طلبتُ منها أنا وزميلاي التقاط صور تذكارية، فظلت هي تبحث عنا في المنتجع، بينما كنا ننتظرها على المدخل الرئيسي، ومع ذلك فإنها – بخلقها الرفيع – اعتذرت عن الدقائق التي فصلت بين مجيئها ومجيئنا، فقلت لها إن ما ينطبق عليك هو ذلك البيت الشعري المليء بالشفافية لشاعرنا القديم القائل:
تراه إذا ما جئته متهللاً=كأنك تعطيه الذي أنت سائله

لقد كان واجب الإعتذار علينا، ولكنك سبقتيننا، فابتسمت تلك الإبتسامة العذبة المليئة بالشجن، كأنها ابتسامة الموناليزا في لوحة دافنشي الشهيرة، ولم أجرؤ على سؤالها عما تعانيه، فقد بدت لي أشبه بشعاع مرهق من طول الإضاءة، وبقي في نفسي شيء من قلق خفي حتى قرأت لها في إحدى الصحف العربية مقالاً كان مدخلها إلى موضوعه الرئيسي حول (حقوق المرأة الكويتية)، والذي كتبته تعقيباً على نائب صرح لصحيفة كويتيه عن “المرأة التي ليس لها حق حتى يُعطى”، و “جريمة إذا منحت الحق السياسي”، الأمر الذي قالت الدكتورة سعاد أنه فجّر في داخلها بحاراً من الغضب، وأخرجها من الإقامة الجبرية التي إسمها المرض إلى حالة الإنفجار على الورق، أقول، كان مدخلها إلى المقال مشاكاة تقطر ألماً موجهة إلى القارئ، أي إلى الرأي العام، الذي ينبغي أن يكون الدرع التي تقف بوجه الحاقدين، وباقة الورد التي تقدم إلى المبدعين.

تقول الدكتورة سعاد: “كثرت الإشاعات عن مرضي، فمن السرطان إلى أمراض لم أسمع بها، وكما تعوّد الحاقدون أن يرموني بسهام حقدهم في حياتي العملية، وحياتي الإجتماعية، وحياتي العائلية، طاردوا حتى صحتي هذه المرة، فشكراً لهم لأنهم قد تحملوا وزر نميمتهم، وشكراً… شكراً للمحبين الذين لم تنقطع عني زهر مكالماتهم، أما حقيقة مرضي فقد غزا رئتي فيروس، ولا يزال الأطباء يطاردونه بكل أنواع المضادات الحيوية منذ خمسة عشر شهراً، تنقلت فيها بين المستشفى والبيت والكلينك، ومنذ شهر رمضان وأنا تحت الإقامة الجبرية في قرية معلقة بخاصرة جبل الألب.
ألف سلامة للدكتورة، ولا أعتقد أن جميع “الحاقدين” يستحقون وخزة ألم من شاعرة طالما أسعدت الناس ودافعت عن حقوقهم. وأستذكر هنا تكريم المعهد العربي الأميركي مؤخراً لسعاد في الذكرى السنوية الخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لمساهمتها الفاعلة في إنشاء منظمة حقوق الإنسان العربي التي تتخذ من القاهرة مقراً لها.


تجليّات ثقافية
11 أبريل 1999

قبل أيام كتبت زميلتنا أمنيات سالم في زاويتها الأسبوعية في الصفحة الثقافية بالإتحاد عن الثقافة وأخلاق المثقفين، ونعت الهوّة السحيقة التي تفصل الكثير من أدعياء الثقافة عن الخلق السوي والقويم، ذلك أن الثقافة الحقة في جوهرها وفي تجلياتها هي غذاء للروح والعقل والضمير، وقد نختلف في ماهية السلوك القويم فيما يتعلق بالخيارات الشخصية للمثقف، ولكننا لن نختلف في تسمية الشذوذ بإسمه العاري إذا ما وجدنا المثقف وقد أصيب بالسّعار فلا يأمن أحدٌ عضاته جهاراً نهاراً ومن وراء حجاب.

وفي زاوية الأمس أشرت إلى صرخة الألم التي أطلقتها الشاعرة المبدعة الدكتورة سعاد الصباح من أولئك الذين لا يكفون عن تجريحها كأنما هي قذى في أعينهم أو غصّة في حلوقهم، ولن تجد سعاد من تستنجد به من هؤلاء الصغار الذين احترفوا مص دماء المبدعين، فهم أشبه بالخفافيش، يقيمون في كهوف النميمة والتخرصات، ولن تجد من تستغيث به كما استغاث سلفها المتنبي بسيف الدولة حين تكالب عله الحسّاد فقال:
أزل حسد الحُساد عني بكبتهم=فأنت الذي صيّرتهم لي حُسّدا

ومع ذلك فإنه حتى سيف الدولة الحمداني عجز عن حماية المتنبي رغم أنه أنعل أفراسه عسجدا، ذلك أن الحسد نارٌ تشتعل في قلب صاحبها ولن تنطفئ إلا حين تحوله إلى رماد فيستريح ويريح، وليس أمام المحسودين سوى الصبر على هذا البلاء مثل صبر شاعر الصعاليك الشنفرى على الجوع:
أطيل مطال الجوع حتى أميته=وأضرب عنه الذكر صفحاً فأذهل.

نعم… سيتكاثر الأدعياء بقدر تكاثر المبدعين، أليس الربيع هو الذي يجلب الذباب والهوام بحسنه ونواراته؟ وأليس النهر هو الذي يجتذب الضفادع والغثاء إلى دواماته؟ وهل هناك مخلوق أخرق يمكنه أن يخلط بين الذباب والربيع أو بين الينابيع والضفادع؟
من شِعر سعاد: يا زماناً ماله لونٌ ولا طعم ولا رائحة، رحل الأعراب عنه وأتى المستعربون، واستقال السيف من أحلامه، واستقال الفاتحون، وصل السيف إلى الحلق، وما زال لدينا شعراء يكتبون، وصل السل إلى العظم ومازال لدينا شعراء يكذبون، ويقولون على الأوراق ما لا يفعلون.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s