فواز طرابلسي

fawaz_trabulsi
فواز طرابلسي

صورة الفتى الأحمر
أما الفتى فهو فواز طرابلسي، وقد جمعتني به جلسة حميمة في نهاية العام الماضي في بيروت في مجلس الصديق سالم صالح محمد، فوجدت فيه تلك الدماثة والشفافية، التي تميز الثوريين الرومانسيين، الذين يدركون العالم، ويعيشونه بقلوبهم، حيث يتركون لها حرية الإبحار، فتقودهم إلى ذروات المغامرة والخطر، ثم لا تلبث أن تقودهم إلى أبراج التأمل والتبصر والمراجعة والتصالح مع الغضب. وقد التقيت بفواز هذه المرة في معرض الكتاب بالمجمع الثقافي في أبوظبي عبر كتابه الذي أمضيت ليلتي في قراءته والذي سمّاه (صورة الفتى بالأحمر).

أما الصورة التي رسمها فواز لنفسه ولعصره – حين كان الرجل الثاني في منظمة العمل الشيوعي في لبنان صعوداً إلى الماركسية عبر تدرجات قومية ووطنية عديدة – فهي صورة مرهفة كُتبت بنبض شاعر، فجاءت وثيقة سياسية فنية ليس فيها صلف المكابرين الوقحين، ولا ضعف التائبين الخائبين، ولا تزييف الإنتهازيين الطامحين، وإنما هي بمثابة “عرض حال” تلوّنه أحلام بدت في وقت من الأوقات كأنها قوس قزح أزلي سيغمر السماء من المشرق إلى المغرب بألوانه الزاهية، ثم تكشّف الحال عن سماء كئيبة تنقّر الغربان ما بتقى من نجومها المضيئة.

“عرض حال” لواقع لبناني يحكمه نسيج موازييك عجيب، كأنه متحف حي لعصور متراكبة ومتعايشة: قروية ساذجة، إقطاع متبختر، بيوتات متسلطة، أفراد متمرّدون، أحزاب تلبس ما تشاء، وتخلع حين تشاء، قوى حيّة ذات عنفوان في أوساط الطلاب والعمال والمثقفين، منظمات فلسطينية تستطيل في كل اتجاه وتضيف إلى الموزاييك تشكيلة غريبة من المنمنمات التي لا تلبث أن تتفجر كالديناميت، وبجانب ذلك قوى عربية ودولية لاعبة ومتداخلة عبر النسيج الحي في بلد يمكنك أن تقول عنه – بالقياس – أنه في حجم ملعب كرة قدم، ولك أن تتصور نوع اللعب وشعارات اللاعبين والمتفرجين.
وأما الأحمر فلا أريد أن أقول أن المعنى في بطن الشاعر، لأن هذا اللون أكثر ضراوة من أن يتم تدجينه فيختفي في أي بطن، ولكن الذي أستطيع قوله هو أن (صورة الفتى بالأحمر) قد رسمت من منطقة رمادية وبيد زرقاء، لذلك جاءت أشبه بتنهيدة طويلة عقب غصّة خانقة.
من ذكريات فواز عن عدن العام 1970 مقابلته مع رئيس الوزراء آنذاك محمد علي هيثم، حيث يقول: “وزاد الطين بلة أنه – أي هيثم – بسّط لي فلسفته في الحكم، وهي تقول بضرورة بناء دولة الإستقلال وأجهزتها، وكان هذا في نظري ونظر رفاقي في “يسار الجبهة القومية” الكفر عينه، فالنظرية السائدة آنذاك كانت تقول بوجوب تدمير جهاز الدولة الكولونيالية، الطبقية، السلاطينية، الكهنوتية عن بكرة أبيها، وغني عن القول أن الحوار بيننا كان أقرب إلى حوار الطرشان”.
هنا يتجلى (الأحمر) في ضراوته العملية التي صبغت مرحلة بكاملها، لذلك أقول أن السياسة لم تخسر كثيراً بطلاق هذا اللبناني الرومانسي لها، ولكن الأدب كسب… وأيّما كسب!.


إلى فواز ووردة
29 يوليو 2006

هذا وقت للذكريات، بلا حزنٍ ولا أسى، بلا عتابٍ ولا هجاء، بلا خوف ولا رجاء، حفظنا كثيراً، ولكننا لم نتعلم شيئاً، مشينا طويلاً ولكن إلى خارج الهدف، مددنا أيدينا إلى النجوم فلم نتمكن من قطافها، ناطحنا الصخور فتهشّمت رؤوسنا، فليقولوا عنا جيل الهزيمة، فها قد وصلنا إلى المربع الأخير، مربع الذكريات، حيث تتساوى كل الأشياء.
نتذكر أمام المرايا بلا ندم ولا إحساس بالخسارة ولا تطلّع إلى اجتراح معجزات، نتذكّر الومضات التي عبرت المخيلة العربية على امتداد نصف قرن من الأحلام التي وُشّحت بالكوافي وعُطّرت بالبارود، وتلألأت في الكلمات السحرية، وجميعها اليوم قتلى: الأحلام، الكوافي، البارود، والكلمات.
ما علينا يا فواز، سنلقي النظرة الأخيرة من صخرة بيروت على السماء الزرقاء والبحر اللازوردي والجبل الأخضر، ونرش مسحوق الذكريات لكي لا ننسى الأرض، ولا يرحل البحر، ولا تصمت فيروز عن الغناء، ولا تكف النساء عن الولادة، ولتأت وردة إلى هناك، إلى ذروة الصخرة، حاملة وليمتها الأخيرة، لكي نرفع أيدينا معاً متضامنين في عين العاصفة التي تدحرج جبال الموج المتوسطية، وتتوغل في برّ الشام.
ربما غيرُنا يُبصر، أما نحن فلا نكاد نرى معنى، ربما لكثرة ما جمعنا في حياتنا من المعاني التي أضاعتنا وأضعناها، فأصبحنا غرباء عن المعنى: فواز طرابلسي حلّق بعيداً بعيداً… في الأفق الماركسي الزاهي، دون أن تكون له هيئة مقاتل في سمت جيفارا، أو صلابة ستالين، أو غموض ماوتسي تونج، وإنما كان أقرب إلى روحانية هو تشي منه وزهادته من الداخل، وأجذب إلى تمرد طرفة بن العبد وولعه بالحياة في الخارج، وقد انتهى به الشوط إلى العمادة الجامعية أستاذاّ مرموقاً، وكاتباً من طرازٍ رفيع، ولكن حرفة النضال لم تبارح دمه، وقد أخذته الحرب إلى أعلى جبل مع زوّادة كتب ومحبرة وبصيص من ضوء قليل… لعلّ وعسى أن تحدث المعجزة في خريف العمر.
وردة، أغنية الحياة ونوّارة الربيع، أسرها الحلم الثوري فأعطته كل شيء، لم تسأل أبداً إلى أين، فقد كانت الأسئلة والإجابات تأتيها بالشفرة والرموز، فتستجيب لها بروحها وشبابها دون أن تكلف نفسها عناء حل الألغاز. كانت الفراشة تدور حول الضوء فيزداد توهجاً وحرارة، وكانت بيروت قرة عين الدنيا، تفرش لها الأرض مهاداً وهي تطير من ركن مضيء إلى آخر معتم فإلى الأفق الأزرق، حتى أصابها الدوار فوقعت إلى الأرض، وحين لم يمدّ لها أحد يديه فقدت المعنى، وانتهى بها الشوط شريكة ومديرة لمطعم أنيق في بيروت، تعيد تدوير الحياة على طريقتها، ولكن حرفة النضال لم تبارح دمها، أما الإبتسامة الساحرة والعينان المغرورقتان بالود وعبق الطفولة فهي من الهِبات الموهوبة لا المسلوبة ولا المجلوبة.
الحرب على مرمى حجر في الضاحية، فلا جبل ولا قاع يعصم منها، لأن قاذفاتها ومجنزراتها وشياطينها قد استوطنوا النفوس وهم يبحرون في الشرايين. وردة وحدها في قاع المدينة، وفواز وحده في ذورة جبل لبنان، والمعنى ضائع بينهما، فيما العنقاء تتجمل للإحتراق، إشتياقاً لحياة جديدة.
هذا وقت للذكريات، بلا خوف ولا رجاء، فنحن “جيل الهزيمة” سنغفر لأنفسنا إن لم يغفر لنا التاريخ…


عدن فواز طرابلسي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s