أميركا أمين الريحاني (1)
في العام 1898 كتب الأديب والمؤرخ اللبناني الأشهر أمين الريحاني (1876 – 1940) مقالاً في جريدة (الهدى) العربية التي كانت تصدر في فيلادلفيا تحت عنوان “الشعب الأميركي المهذّب”، ضمّنه آراءه في الأوهام المسيطرة على عقليات الأميركيين ونظراتم إلى العالم المحيط بهم بعد أن تعمق الإعتقاد في نفوسهم بأنهم أفضل شعوب الأرض قاطبة، وأقدرها على قيادة دفة الحياة الإنسانية في مفارقة عجيبة طالما عانت منها الإنسانية من توهم الصاعدين بأنهم يسيرون فوق السحب، بل وأنهم هم الذين يسيّرونها وأن من على الأرض ما هم سوى هوام تقتضي التفضل عليها بالبقاء حيّة، أو تنظيف الدنيا منهم بكنسهم وإبادتهم، غير مدركين في الوقت نفسه لعوامل التسوّس والنخر التي ستؤدي بأوهامهم ذات يوم ليستقروا في الحضيض، وتعلوا أمة غيرهم، وتلك سنّة الله تعالى في الأرض، ولن تجد لسنّة الله تبديلا.
يقول الريحاني – الذي هاجر إلى نيويورك واكتسب الجنسية الأميركية – وتذكر أن ذلك قبل قرن من اليوم:
“يعتبر الشعب الأميركي ذاته أرفع الشعوب مكانة في التهذيب والتربية، وأحرّهم غيرة، وأصدقهم وطنية، وأبعدهم عن الفساد والخيانة، وعندهم أن أدنى غبي منهم يستطيع تدبير سياسة الأمة لو أنيط به ذلك، ويمكنه أن يسن شروطاً ودستوراً جديراً بأن يتبعه العالم أجمع”.
ويعلق الريحاني بالقول: “ولكن لو تأملنا قليلاً بتجرّد، وأمعنّا النظر في “الشعب المتنوّر”، لرأينا أن صوت هذا الشعب هو صوت أولئك الأغبياء الذين يجهدون نفوسهم مظهرين بالحكمة وهم يطوفون سعياً وراء ما لا يخلق بالعقلاء، ولا يقصدون بهذه الحمية والغيرة إلا التمويه على أعين الناس”.
ويعتذر الريحاني عن نفسه بالقول: “حقاً يعزّ عليّ أن أعلق أفكاراً كهذه عن شعب نشأتُ بين ظهرانيه، واختبرت طباعه، وأخذت عن عقلائه، ووقفت على تراجم أساتذته وحكمائه، واستفدت من آثار أفراده…الخ”، لذلك فالريحاني يدعم رأيه برأي لصاحب جريدة ألمانية تنشر في أميركا، فماذا يقول هذا الألماني؟:
“إن الأميركي كالإنجليزي، يعتبر بلاده هي البلاد الوحيدة في كمالها، أما الفرق بينهما فصغير، وهو أن الإنجليزي يبرهن على تصلفه وتصوّره بتصرفه الكبريائي وتعجرفه الظاهر، والأميركي بالمباهاة السخيفة، والافتخار الباطل. ولا ريب أن الذين تجمعهم بالأميركيين الألفة والمعاشرة يدركون أن هذه الخلّة مستولية عليهم استيلاءً عظيماً”.
ويعلق الريحاني: “أي أن بهم الاستزراء بمن سواهم من شعوب الأرض كافة، وهذا هو الأمر الوحيد الذي ربما كان عاملاً على سقوط هذه الجمهورية الحديثة، لأنك إذا خضت مع أميركي في الحديث وأظهرت له أدنى فكر تـُشتمّ منه رائحة التنديد بسياسة البلاد وخطة السياسيين، لنفر منك شامخاً، وصعّر خده ناسباً إياك إلى الجهل، ولو كنت من المجنسين لدعاك خائناً وجاهلاً أحمق”.
وبعد قرن من الزمان نقول للريحاني: “ما أشبه الليلة بالبارحة”، أما تحليل الريحاني لهذه الظاهرة فنستعرضه في زاوية الغد.
أميركا أمين الريحياني (2)
31 يناير 1999
لم يكن أمين الريحاني في آرائه التي كتبها عن أميركا قبل قرن من الزمان متحاملاً، فقد نجح في تلك البلاد التي اتخذها موطناً، وكان يعمل في التجارة، مع اهتمام بالآداب والثقافة والتاريخ، وقد أصبح لاحقاً من أشهر كتّاب العربية بكتابه الأشهر (ملوك العرب)، وكتبه (تاريخ نجد الحديث، قلب لبنان، قلب العراق، والريحانيات)، ولكن ربما كان صغيراً في السن حين كتب مقاله المشار إليه المعنون (الشعب الأميركي المهذب) في العام 1898، إذ كان لم يتجاوز الثانية والعشرين، ولكن هذه السن هي أدنى إلى الصدق والجهر بالرأي من دون دبلوماسية أو لف ودوران، كما أن الرجل – كما تنبئ سيرة حياته اللاحقة ومجموع كتاباته في تلك السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر – لم يكن غراً ولا قليل الثقافة، فإذا جمعنا سعة الإطلاع ورغبة المعرفة إلى غضارة السن لكان الحاصل صورة ملونة صادقة مشبوبة العاطفة، ثم لا ننسى أن أميركا – التي لا تزال تنظر إلى نفسها بأنها أكثر بنات الأرض فتنة وشباباً، وأن الله لم يخلق مثلها في العالمين – لم تكن في ذلك الوقت قد ساءت صورتها كما هو الحال اليوم، لذلك فإن نظرة الأميركيين إلى أنفسهم في ذلك الأوان المبكّر كانت إرهاصاً بما صاروا عليه اليوم، ألم يقل العرب: “إن الحرب أولها كلام”، وقد تحدثوا إلى أنفسهم طويلاً حتى صدقوها، وعلى أساس ذلك خرجوا إلى العالم لا ينظرون إليه كما هو في الواقع، وإنما كما يحبّون أن ينظروا إليه، وكما يرغبونه أن يكون، وهم يندهشون كيف أن هذا العالم غير الأميركي لا يعيد تفصيل نفسه على مقاساتهم، فيلبس الجينز ويأكل الهامبرجر ويتخلق بأخلاق رعاة البقر الفاضلة.
للريحاني تحليله حيث يقول: “من أين جاءت هذه الغيرة العمياء والتعصب الذميم، وهل يمكن أن توجد هذه “المزايا” في بلاد كثرت فيها المدارس، وخفقت بها أعلام العلوم؟ كلا.. إذا كانت المدارس تغرس في القلوب المبادئ القويمة والتعاليم السامية الصحيحة”.
ويشرح الريحاني أساس البلاء الأميركي بالقول: “ولكن مدارس هذه الجمهورية (أميركا) عاجزة عن تتميم هذه الفروض، وبناء عليه لا نرى إلا عشرة أميركيين في المئة يرضعون من العلم لبناً كافياً، وأكثرهم يتعلّمون في المدارس العمومية التي لا تنبئهم إلا بالقليل عن جمهوريتهم هذه، وتهمل تعليمهم بالذي يختص ببقية الأمم، وهكذا يصير الولد من المدرسة إلى العالم مشمخراً برأسه إلى السحاب، مصداقاً لما قاله (برك) من “أن قليلاً من العلوم يضر أكثر مما ينفع”، فلا ينجم عن هذه التربية غير الكاملة إلا حب الذات، والتصلف الباطل، والتعجرف السخيف، والازدراء بالناس، والاستهزاء بكبار الحضارة ووجهاء القوم، واحتقار الجميع، وما يساعد على ترسيخ هذه العوائد الأقاويل البذيئة التي تنشرها جرائد هذه البلاد عن عظماء الشعوب، وأفاضل الناس وساسة الممالك”.
لم يكن في ذلك الوقت بين العرب وأميركا شيء، ولم تكن الصهيونية قد أنشبت أظفارها الحادة في عنق الزرافة الأميركية، لذلك فالريحاني كتب ما كتب خالياً من أي تحيّز مسبق، ورغم انتقاداته فإنه لم يغفل إيجابيات كثيرة… فإلى الغد.
أميركا أمين الريحاني (3)
1 فبراير 1999
تحمّس أمين الريحاني في سلسلة مقالات كتبها عن الشعب الأميركي في السنة الأولى من قرننا هذا الذي نودعه لحبهم للقراءة والإطلاع والتجريب وخوض الجدل والنقاش في كل شأن من شؤون الحياة، وكما أشرنا في زاويتي الأربعاء والخميس من (آفاق)، فإن الرجل قدّم صورة متوازنة مشبوبة بعاطفة قوية، وبالرغم من صغر سنه آنذاك فإنك تشعر في كل جملة سطرها قدحاً أو مدحاً أن الموروث الشرقي وواقع حال العرب كانا في خلفيات تفكيره، وكانت المقارنة تكشف عن نفسها وإن لم يصرّح بها فـ “بضدها تتميز الأشياء”.
يقول أمين الريحاني في مقال بجريدة (الهدى – فيلادلفيا – 11/5/1901) عن المواطن الأميركي: “وكل من أغفل مطالعة الصحائف الأخبارية والمجلات العلمية والأدبية والفكاهية، أو قضت عليه بعض الأمور الخصوصية بعدم معرفة ما برز من المطابع من التصانيف الجديدة، والتآليف العجيبة، أو عجز عن الخوض في عباب موضوع أدبي أو سياسي، وأظهر ضعفه في المجادلة وقصر باعه في أحوال البلاد ومشاكل الأمم، عدّ من الجهلاء الأغبياء الذين لا يستحقون أن يتمتعوا بالحقوق التي تمنحهم إياها الجمهورية”.
ويرسم لنا صورة مقربة لذلك بالقول: “إن صغيرهم ينشأ بين الروايات وصحف الأخبار والكتب والأسفار، ولو كان أهله من الذين عضّهم كلب الجوع، وزأر فيهم ذئب الفقر”. ويجسّد أمين الريحاني هذه الملاحظة بمشاهدة حية:
“إذا خرجْتَ من منزلك صباحاً تقع عينك على ذلك الغلام الرائع الذي يستر عريه ويفثأ صفرته في صحف الأخبار، منزوياً مكاناً في الشارع، وآخذاً بمطالعة الجريدة إلى أن تخرج الناس من أشغالها، فيبيعهم إذ ذاك الجريدة التي يكون قد طالعها قبل كل إنسان سوى منضد الحروف ومنقح المسودّة”
ويعلق الريحاني: “إذا كانت هذه حالة عامة القوم، ماذا يا ترى تكون حالة علية أصحاب الرتب والمناصب والوظائف وذوي الحرف العلمية، وأرباب الفنون الجميلة…”، ويعلق: “هل ممكن أن تكسد التصانيف، ويبرد سوق الأدب عند قوم يهوي واحدهم القراءة والمطالعة بقدر ما يعشق البدوي ظهر الناقة”.
ويشف الريحاني: “ولكل تصنيف بل لكل شيء جديد هوس عمومي عند هذا الشعب يدعى بلغتهم الاصطلاحية CRAZE، وهذا الهوس الأولي يتبعه كلام الناقد الذي تارة يزيد ناره اشتعالاً، وطوراً يخمدها تماماً”.
وطبعاً نفهم من كلام الريحاني أن الحضارة لزيمة المعرفة، وأن المعرفة من نواتج حب الاستطلاع والاطلاع وترقية النفس وإرهاف الحواس التي منحها الله تعالى للإنسان، ومنذ كتب الريحاني ما كتب في مطلع القرن أثمرت حمى المعرفة الأميركية نتائج مدهشة في إطار الحضارة المادية مازالت تنتظر قرينها الروحي الذي لم يكون سوى بتفعيل الأمانة التي أودعها الله عزّ وجل في الإنسان الذي خلقه على صورته، ولا بد له أن يكون عادلاً رحيماً وصولاً للإنسانية، بعيداً عن التوحش والأثرة والتكبر، ونسيان فضل الله تعالى عليه، الذي حوّل مطاريد القارات القديمة إلى أغنى شعوب العالم وأكثرها تقدماً، وإلى الله ترجع الأمور.