كنا في كل ساعة على سفر وشيك، عبر بلاد (التشيك)، كان البرنامج مثل كبسولة الدواء المركز، أكبر قدر من الفاعلية في أصغر حيّز.
وفي ذلك، فقد أبليت بلاء حسناً بسبب حبي للطبيعة، وشغفي بالعمران، وتطلعي إلى معرفة كل جديد.
أما زملاء الرحلة – من وكلاء ووكيلات السفر – فقد ذاقوا الأمرّين من هذا البرنامج اللاهث، وكان رد فعلهم الطبيعي: النوم المريح على امتداد الطرق التي قطعناها بالحافلة السياحية من (براغ) إلى (كارلو فيفاري)، فالجبال والقرى المحيطة بها، حيث الغابات العظيمة، وعبر الجبال إلى الحدود الألمانية، عوداً إلى (براغ)، فالمطار.
وقد أشفيت غليلي من أولئك السيدات والسادة الغافلين عن الجمال، والمُتخمين بالطعام والشراب، والحالمين بنومٍ هانئ، بينما هم يغطّون في النوم العميق. والحقيقة أن المثل الشعبي القائل: “كل واحد بعقله مستريح” ينطبق عليّ وعليهم… فما أراه أنا جميلاً يستحق الانتباه والتعب والمتابعة، يرونه هم شيئاً لا يستحق منهم حتى عناء المشاهدة، فكل الأشجار سواء… وكل الأنهار متشابهة… وكل المدن أخوات… وكل الوجوه بعيون وآذان….
وما يرونه هم من أشياء تستحق – ليس مجرّد السعي وإنما القتال: مثل صلصلة النقود في الجيوب، والإكثار من الأرقام في البنوك – قد أراه أنا شيئاً حيوياً، ولكنه ليس مصيرياً، وهكذا فللّه في خلقه شؤون، ولولا اختلاف الأذواق لبارت البضائع في الأسواق.
في (كارلو فيفاري) تذكرت صديقي (سعيد دحي) – الذي أخذ إجازة خاصة ذات يوم ليلتحق بي هناك لإنقاذي من ملل قاتل اعتراني بعد أن اتصلت به تليفونياً أطلب المساعدة العاجلة – وقد آمنت آنذاك ببيت (شوقي): ولو أني حبيت الخلد فرداً… لما أحببت في الخلد انفرادا”.
وقد كنا نسير ونسير ونسير رياضة ومتعة وحمية، لدرجة أن (سعيد دُحي) ينساني وينسى إسمي، فأفاجأ به يدعوني: “يا (عوض)… كيف حالك يا (عوض)… ليش ما نرتاح شوية يا (عوض)”. في البدء ظننته يمزح، ثم اكتشفت أنه جاد، عندما تكررت الواقعة مصحوبة بالتعب وبالتمحيص والاستقصاء، تبين أن (عوض) هو صديق طفولة مبكرة من أيام (المكلا)… الله يسامحك يا ابن (دُحي).
حين أطللنا على الحدود الألمانية – من على مرصد يتبوأ قمة جبال ثلجية – أدركت معاناة هذا الشعب الصغير المتجانس المحاط بـالهوامير من كل جانب، وكيف أنه لم يخرج من تلك المعاناة بطائل سوى درة المدن (براغ)، تلك التي تعتبر أحد أهم مصادر الاقتصاد التشيكي، حيث يؤمها سنوياً حوالي 40 مليون سائح، كما أنها تعتبر ضمن أجمل الإنجازات الإنسانية، بمبانيها، ومسارحها، وقلاعها، ومتاحفها، وقبابها الذهبية.