مثلما تحنّ الإبل إلى مواطنها، أخذ الحنين يشوينا شوقاً إلى الإمارات “يا ويح نفسي… لا ذكرت أوطانها حنّت… حتى ولو هي… في مطرح الخير رغبانه… وعلى الموارد… لا جات للشرب تتنغص… قدها مقاله… شرب النغص يتعب الإنسان”.
حيا الله (أبا محضار) و (أبا أصيل)… هذه الأغنية التي كتب كلماتها السيد (حسين المحضار) وغناها (أبوبكر سالم) كانت البلسم الشافي لجراحي، فقد أصبحت (لندن) أضيق من سم الخياط، وصرت أرى الناس كالأشباح، وأنا أسير على غير هُدى، آكل وأشرب وأتنفس الأغنية التي أصبحت بالنسبة لي مثل غرفة الإنعاش لمريض يوشك على الرحيل.
وكلما رأيت أناساً يشدّون للرحيل أردد في مهاوي نفسي الكئيبة: “خذاني فجرّاني ببردي إليكما… فقد كان قبل اليوم صعباً قياديا…” هل حقاً أنني سأقيم ما أقام (عسيب)؟ كما فعل جدي (امرؤ القيس)، وأخاطب كل من تمرّ بلسانه: “أجارتنا إنا غريبان ها هنا… وكل غريب للغريب نسيبُ”… حقاً إن “شرب النغص يتعب الإنسان”.
في هذه الحالة فإن أول أعضاء الإنسان مبادرة إلى التمرّد هي (المعدة)، وكان (القحطاني) أول من أصيب بهذه النازلة، فأصبح لا يأكل سوى الخبز المدهون بالثوم المصحون. ثم جاء الدور عليّ، فلم أعد آكل سوى التونة والبصل بدون أي خبز أو عيش… وبذلك، كسدت كل طبخات (العفيفي) التي شبعنا من مدحه لها أكثر مما شبعنا منها، فصاحِبنا يخلط أي شيء مع أي شيء في أي شيء، يقول لنا: “كلوا صوابعكم وراءها”، وياما أكلنا صوابعنا بلا ملح، وياما أكلناها بشطة تفتت كبد الجمل… ونحن صابرين إكراماً لصاحبنا، وإذا قلنا له في يوم من الأيام أننا اشتقنا للحم بالمرق (شوربة) يطرب طرباً شديداً فيشتري أفضل أنواع اللحم ويضعه في القدر مع بصل وثوم وبطاطا وزنجبيل وطماطه وكل ذلك بدون تقشير، مع كميات هائلة من كل أنواع الخضار والتوابل وما تيسّر من الماء… ونحن نلهث وراءه: “يا (أبا عادل)، خلينا نقشّر أي شيء… وما فيش فايده… أنتم لا تعرفون شيئاً، والناس ستقوم بواجبها، وكل هذه القشور ستترسّب في القاع… وبرضه راح تاكلوا أصابعكم…”.
المهم بعد إضرابنا عن الطعام، راح (العفيفي) يسلّط علينا الأصدقاء يدعوننا للغداء والعشاء، فلا نستجيب، فقد رفع (القحطاني) شعار: “البلاش يجيب العمى والطراش”… حتى كان ذلك الانفراج الذي أخرجنا من حال إلى حال.
فإلى الغد…
آفاق فضل النقيب 