دفاتر السفر (12)

 يبدو أن صاحبي أدرك عقب الخيبة التي منّي به في (الكافيه دو باريس) أن الزمن تغيّر فعلاً، وأن الثلاثين عاماً التي قد يعتبرها غمضة عين – في عقله اللاواعي، أو حلمه الصاحي – هي زمن حقيقي يُفني ويُبلي، ويغيّر الناس والأشياء. وقد أقنعته – بعد لأيٍ – بأن نعود القهقرى، إلى المقهى العتيد، لنتأمل برؤية وتسامح جمال الموضات الأخيرة في مصابيح الحياة، وتلك اللوحات النادرة التي حفرتها أصابع الأيام على الوجوه والأيدي والأجساد، وذلك الوفاء لرحلة العمر الطويلة بين أزواج يتمسكون ببعضهم البعض حتى الرمق الأخير محاولين أن يترشفوا سوية ما علق بالكأس من بقايا قطرات تبل الظمأ ولا ترويه.

استأنس صاحبي لحديثي فأخذ يحدثني بدوره عن خبراته وتأملاته قائلاً: “إن مشكلة الإنسان أنه في اللحظة التي يصل فيها إلى النضج واكتساب الحكمة والخبرة يخونه جسده ويقعد به عن النهوض، كأنه يسخر منه ويخرج له لسانه. فيما قلب الإنسان لا يشيخ. لذلك فإنه من الخطأ النظر إلى كبار السن باعتبارهم (سكراب) محوّل إلى متاحف العاديات، كما أنه من الخطأ النظر إلى الأطفال ومعاملتهم على أنهم صغار لا يفهمون. إن خيطاً سحرياً وقنوات متدفقة تصل بين الممرّين، قد تجعل من الشيخ في لحظة ما طفلاً بريئاً أو شاباً جريئاً، وتجعل من الطفل كهلاً متوجاً بالحكمة، أو رجلاً محملاً بأحزان تكسر الظهر.”.

قلت له: “لا تسترسل… ترى قلبناها (غم)، وبئس الحكمة تأتي في غير أوانها تبريراً لهزيمة أو تسويفاً لخيبة… يا أخي يالله… بلا لوحات حفرها الزمن، بلا مصابيح تنطفي، بلا عجايز يتساندون… إحنا مش ناقصين… راح تبكّيني… مش عليهم… وإنما على نفسي”.

فوجئ صاحبي بهذا الكلام ولكنه ابتسم ابتسامة الحكيم وهو يعلّق: “بحكم خبرتي دعنا نرحل إلى (برايتون) بالقطار، متعة السفر عبر الريف الإنجليزي.. الإرتماء في أحضان البحور الزرقاء… التمتع بمشاهدة الجمال ومعابثة الأنسام.”

قلت له: “أما خبرتك فمجربة ومؤكدة, ولكن… بودي أن أسألك: متى كانت آخر مرة زرت فيها (برايتون)؟”.

فعلاً كانت رحلة جميلة، لم يزعجنا فيها سوى عملاق مخيف صادفناه في مقصورتنا بالقطار، وتستطيع أن تقول أنه بلا وجه… مجرّد كتلة هائلة تشبه صخرة مربوطة بخيط لا تدري متى تتدحرج باتجاهك، وقد قعدنا حتى منتصف الرحلة كأن على رؤوسنا الطير، وفجأة اقتحم المقصورة مجموعة من الشباب غير المبالبين بأي شيء، فإذا بالعملاق ينسحب على أطراف أصابعه وهو يرتجف من الخوف.

(برايتون) مدينة مرحة تشبه الضحكة الصافية من فم حسناء لعوب، وقد أدركت سر (أبوصالح) – وهو تاجر ذهب من الرياض وصديق حميم للفنان (أبوبكر سالم) – ليس في فمه غير (برايتون)، حتى عندما تسأله عن اسمه أو سنه أو عمله فإن جوابه الوحيد (برايتون)… فعلاً (برايتون) يا أبا صالح.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s