دفاتر السفر (10)

 مرّت عليّ عقب الأيام الأولى في لندن المضطربة بالحركة وقلة البركة، أيام هانئة وادعة سلسلة هنيّة، ذلك أن السفر له حركة مثل حركة البحر، أولّه أمواج عالية وصخب، وتدافع، ومدٌّ يضرب الشواطئ، ثم يأتي الجزر، وتنسحب الأمواج بعيداً، فإذا أنت مع نفسك وحيداً، تحلم بأبنائك البعيدين، وأصدقائك الغائبين، وأماكنك المفضلة.

ويلعب الخيال اللّعوب دوره المرسوم، فينقلك في غمضة عين كأنما في (فلاش باك) سينمائي… إلى كورنيش أبوظبي، وأروقة الإتحاد، وأسواق المدينة.

تسقط في غيبوبة الحنين (Home sick)، وتستسلم لذلك الشعور اللذيذ بلبس جلدك القديم الذي كنت قد خلعته وأودعته أمانة في مطار أبوظبي الدولي.

وها هو الخيال اللعوب يوفر عليك عناء الاستلام والتسليم وإجراءات المعاملة، فيأتي به إليك وأنت جالس مغمض العينين في (لوبي) الشيراتون (بارك تاور).

تفتح عينيك على عالم من الأصدقاء المتناثرين هنا وهناك، يرتشفون الشاي والقهوة، ويقرأون الجرائد، بينما هم يستمتعون برفاهية الكسل، وعبقرية الفراغ. (ناصر الظاهري) بابتسامته المحببة التي يحرص ألا تهرب منه، لكنها تتحداه فتشع من عينيه… (الطيب باقر) الذي تفرك عينيك عشرين مرة قبل أن تتعرف عليه في زيّه الشبابي الجديد كأنما لبس طاقية الإخفاء ثم خرج بعدها خلقاً جديداً…

(مونتجمري) الرمال (أحمد فريق العلوقي) بعينيه المتوقدتين وافتخاره بنفسه بعد أن أصبح واحداً من أشهر صيادي الكنوز البحرية. (محمد جابر الأنصاري) بهيئة المفكر الذي تتصاخب في رأسه آلاف الأفكار، فهو يراك ولا يراك من ركنه البعيد. طبيب العيون الشهير (يحيى المضواحي) وقد تلفع بكوفيته في عز الدفء حيث يبدو كواحد من نجوم السينما بوسامته ووجه المعبّر.

وسط هذا الصمت الجميل والموحي تهبط العاصفة، ها هو الدكتور (نجم عبدالكريم) بصوته الرعدي وهيئته الشمشونية يزلزل نظام الأشياء، فتبدأ الجزر المنفصلة في الاتصال ببعضها. أنظر في عيني الدكتور (نجم) عبر زوبعة الغبار فأكتشف طفلاً بريئاً، وكمية من الحزن تكفي أهل لندن جميعاً.

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s