دفاتر السفر (4)

توقفت بالأمس عند العجوز اللندنية التي تأتي حاملة على كتفيها ثمانين عاماً من مسيرة الحياة، لتقف على ناصية (هولاند بارك) وفي يدها اليسرى كيس مليء ببقايا خبز تأخذ في تفتيته بيمينها، وقبل أن تلقي على الأرض بأول قبضة خبزٍ تكون مئات الحمام المسالمة الوادعة قد أحاطت بها في جلبة وجذل وتطلّع وحماس، كأنها تؤدي مراسم الولاء الامتنان للسيدة العجوز التي لا تتخلف عن موعدها، معبّرة بسلوكها النبيل عن ذلك الرباط المقدّس الذي يجمع كل الكائنات في مملكة الله الوسيعة، والذي لا يستشعره سوى قلة من البشر الذين انزاحت عن بصائرهم وأبصارهم أثقال الأثرة ودهاليز الطّمع المظلمة، وتلك الأنانيات التي لا تَشبع ولو سرقت ما في الأرض جميعاً.

أقف لأتأمل بإعجاب تلك الثمانينية وقد أضاء وجهها بنور قلبها الرحيم، لأكتشف أن هذه الوليمة المجانية في الهواء الطلق ليست حكراً على الحمام، حيث تُشارك فيها بعض البلابل والعصافير وحتى الغربان التي تعلمت الصمت واحترام أصول اللعبة، التي تقضي بالمنافسة طالما قطعة الخبز طائرة في الهواء أو واقعة على الأرض، أما إذا أطبق عليها منقارٌ ما فإن الرزق قد عرف صاحبه، فلا يجوز منازعته فيه. فلو كانت الأرزاق تأتي بقوة… لما أكل العصفور شيئاً مع النسر… كما يقول شاعرنا.

ثمة مسافة تفصل (هولاند بارك) عن المتنزّه اللندني الأشهر (هايد بارك) الذي يوجد أحد مداخله في الشارع نفسه (كنسنجتون هاي ستريت)، مسافة معقولة تغري بالمشي في ذلك الجو الصباحي المائل للبرودة. أتلفن للـ(عفيفي) إلى الشقة وأنتظره في مدخل العمارة الحصين، فما من مبنى في لندن يمكن لغريب أن يدخل إليه كما هو الحال هنا، حيث أبواب العمارات مشرّعة على الريح، وهي نعمة كبرى من نعم الأمن والأمان.

إن هي إلا دقائق فإذا بصاحبي يطلّ وهو يدبّ بجسمه المكتنز، وعينيه اللتين تشبهان عيون العرّافين وقارئي الكف، فنأخذ في المشي “لا ريثاً ولا عجلا” حتى نصل إلى ناصية فندق (رويال جاردن)، حيث يوجد أول مدخل في طريقنا إلى (الهايد بارك) تماماً بجوار سكن الأميرة الراحلة (ديانا)، في تلك البقعة التي شهدت أعظم تدفّق لعواطف الحزن في التاريخ، وحيث توجد مقبرة الزهور التي تحوّلت إلى سماد لتُزهر في الذكرى الأولى لرحيل الأميرة بعد أيام.

هناك نفترق، يذهب هو إلى كافيتريا تطل على (الهايد بارك) لتناول فطوره، وأستأذنه أنا في الذهاب إلى صديقاتي على ضفاف البحيرة، فأعرج بعد أن تعلّمت درس العجوز اللندنية لشراء كيسٍ من الخبز أحمله لصديقاتي من البط اللواتي يتهادين كالعرائس وهنّ يستقبلنني…

(وللحديث صلة).

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s