عبدالرزاق رشيد

هبطت إلى بغداد في شهر مارس من عام 1974، وفي مقر اتحاد الأدباء العراقيين بساحة الأندلس ذات أمسية ربيعية منعشة جلست إلى طاولة عبدالرزاق رشيد الناصري، الرجل الموسوعي الثقافة، العميق النظر، المتحرق لكل جديد في المعرفة.

كان “أبو أسماء” لا يعتز بشيء في الحياة قدر اعتزازه بكتبه ومكتبته، وحين يتحدث أحد عن كتاب قيّم لم يقع في يده يكون ذلك بمثابة جرس إنذار خطير، إذ تجحظ عينا عبدالرزاق وتبرقان من تحت نظارته السميكة، ولا يلبث أن يعتذر بأي حجة للمغادرة، ثم لا يقر له قرار حتى يعثر على الكتاب، فيقرأه بتمعن وبرؤية نقدية، ثم يفاجئنا في جلسة قادمة صائلاً جائلاً مستعرضاً المحتويات، ومقارناً بكتب أخرى يقرض وينقد ويقوّم.

لقد كانت الثقافة بالنسبة له معركة حياة لا تعرف المحاباة ولا المجاملة، لذلك كان يصغي بانتباه شديد ومتابعة واعية صامتاً كأن على رأسه الطير، ثم يهب فجأة كالعاصفة في نقاش مستفيض ومقارعة مريرة وتصميم على الوصول إلى نتيجة لا لبس فيها ولا غموض، فهو لا يؤمن بسياسة لا غالب ولا مغلوب في الثقافة، وكان هناك دائماً جمهور ومشاهدون فحيث يوجد عبدالرزاق رشيد يوجد الجدل وخصوبة الحوار والتآلف الباهر للثقافة.

ولم يكن أحد من مدعي الثقافة وقراء العناوين – كما يسميهم – ليجرؤ على الجلوس إلى طاولته، فقد كانت النتيجة معروفة سلفاً، لأنه إذا جادل بدون علم ستتخطفه صواعق عبدالرزاق رشيد، بما يجعله عبرة للمعتبرين.

وعلى النقيض من ذلك، يجلس “أبو أسماء” أمام العلماء المتبحّرين في علمهم أو تخصصهم جلسة الوقار والإحترام والتقدير، الأمر الذي يؤكد شرف المعرفة ونبلها في نفسيته، ولقد عاناها وخبرها، حيث إنه ثقف نفسه بنفسه، وصعد سلّمها العالي درجة درجة، وكان يؤمن على الدوام بأن من المستحيل الإحاط بالمعرفة ولو منح الإنسان عشرين عمراً، فهي مثل طبقات الأرض المتراكبة، لا يُسبر غورها البعيد، لذلك فقد كان يتخيّر القمم العوالي لقراءاته قائلاً أن ما تبقى من نظره أعزّ من أن يُصرف في قراءة أعمال فجة أو لكتاب هواة.

كانت المعرفة بالنسبة له هدفاً ومتعة خالصة في حد ذاتها، وليست وسيلة للكسب، ومن هنا سعيه الدائب للحصول على أجود ثمارها والإسترشاد بأسطع نجومها، وفي الوقت نفسه التهيّب من خوض غمارها أو مقاربة لججها إلا على حذرٍ شديد.

ولقد سَعَدّت بالعمل مع هذا الرجل عدة سنوات بصحبة الزملاء سعد البزاز، جمعة اللامي، حسب الشيخ جعفر، وأحمد خلف، وغيرهم، فاكتشفت فيه الجانب الآخر: قلب طفل رقيق، كرم نفس سمحة، عدالة أخلاقية لا يمتلكها سوى أصحاب الضمير المرهف، إضافة إلى قدرته العميقة على اكتناه ومعرفة النفوس، كأنما يقرأ في كتابٍ مفتوح.

أمس تسلّمت رسالة من عبدالرزاق رشيد: يا للهول، ماذا جرى لأهلنا في العراق، أي ريح صرصر عاتية أغرقت هذا البلد العريق في ظلامها وظلمها وحصارها… أطفال العراق جائعون يتضوّرون… عراة يلبسون الأسمال إن وجدت… حفاة… أمراض بلا دواء، بلا أمل… الشباب والشابات لا يستطيعون الزواج… من الذي يستطيع أن يهنأ بلقمة أو لا يغص بشربة والناس على هذه الحال. عبدالرزاق رشيد يسألني إن كنت أستطيع أن أدبر له عملاً… أي عمل… ما الذي يمكنني أن أقوله لهذه الكبرياء الجريحة… إن دموعي دليل ذلٍّ وعجز.
وعلى الدنيا السلام…

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s