غالباً ما تعود هذه الحياة الشحيحة، فتعرّفك على أناس كنت تظن أنك تعرفهم حق المعرفة، بناءً على معلومات عامة، وقد تسمح لنفسك فتفتي بشأنهم وتخوض في شؤونهم، ثم تكتشف – وقد اقتربت منهم أكثر – أن لهم مناهل ومنابع غير تلك التي عرفت، وأن في نفوسهم وأرواحهم وأخلاقهم ومعارفهم ما في الوديان الخصيبة من متعة للنظر وطرب للسمع وسمو في العطاء وتفجر بالحياة، وقد تقرع السن بالسن ندماً إذ تسرّعت فحكمت، وحكمت فظلمت.
هذه النماذج الإنسانية النادرة يبدو أنها بعض أكثر معطيات الحياة خصوبة، فهي مثل الدرر تغوص في الأعماق، فيما الأصداف الفارغة قد تعجبك أشكالها ولكنك حين تطلّ على دواخلها لا ترى سوى ذلك الرمل الباهت يغطيه الزبد الذي لا ينفع الناس، ولا يدفع شرور الوسواس الخناس، لأن صفير القواقع لا يمكن أن يكون سيمفونية.
مساء أمس الأول شهدت قران ابنة سفير الجمهورية اليمنية لدى الدولة معالي الأستاذ/ محمد سالم باسندوة في مقرّ إقامته في أبوظبي، وكان حفلاً بهيجاً بسيطاً، عبّر عن فلسفة الرجل ورؤيته للأمور، وتواضعه الجم، وبعده عن المظاهر الفارغة، والتفاخرات الكاذبة، وحين سأله القاضي الشرعي عبدالرحمن البركاني عن الصداق قال: ألف درهم يكفي… كافي جداً.
وحين وقع على العقد طفرت الدموع من عينيه، وقال لي وهو يمسحها بطرف كمّه: “الفراق صعب، كأني أفارق عضواً في جسدي، لنتمنى لهم السعادة”.
قلت له: “بالرفاء والبنين، وألف مبروك يا أستاذ، هذه ساعة فرح، وأنا متأكد أن هذه الدموع هي دموع المحبة والسعادة والتبشير بمولد أسرة جديدة، هي أغلى ما نتمناه لأبنائنا”.
ولحسن حظي فقد كنت بين أوائل الحاضرين إلى مجلس الأستاذ المطل على بركة السباحة، فسعدت بسماع سلسلة من القصائد العصماء المتصلة بأي موضوع طرح على بساط النقاش، ذلك أن الأستاذ/ با سندوة يمتلك ذاكرة جميلة للأدب العربي قلّ نظيرها، وحين اعتذر عن أنه لم يعد يحفظ مثل أيام زمان قلت له: “إمسك الخشب يا أستاذ”.
وأتذكر أنني في أول لقاء مع الأستاذ على مائدته، وقد رأيته يخدم الناس طوال الوقت ولا يأكل، قلت له: “تفضل يا أستاذ، في الأولاد والنادلين البركة”، ردّ عليّ: “أنت لا تعرفني، إنني أساعد الأهل في غسل الأطباق، بل إنني أرجوهم أن لا يحرموني من متعة المساعدة”.
الأستاذ/ با سندوة الذي يودعنا هذه الأيام، نموذج إنساني نادر سيفتقده الكثيرون، لذلك لا نقول له وداعاً.. ولكن إلى اللقاء.