
الجواهري (1)
حببت الناس والأجناس، من شب، ومن شاب، ومن أظلم كالفحم ومن أشرق كالماس.
حببت الناس والأجناس، حب الأرض للفاس، أو القفرة للآس أو الليل لنبراس.
حببت الناس والأجناس، حببت الناس، كل الناس، حببت الناس.
حب الناس هو مفتاح شخصية الفقيد الجواهري شاعر العرب الأكبر، وأبرز شاهد على قرننا هذا، فقد أوفى على المائة فطاول الزمن كما طاول الطغاة، وطاول الأمل بقدر الحب الذي فنى فيه وأفناه في شعره، ليكون نسغاً للحياة، بعد أن أضاء كالشمس، وأخصب كالربيع، وهمى على الأحياء كما تهمي الديم الكريمة مجددةً دورة الحياة، وهدية من السماء العالية إلى الأرض العطشى.
الحب مفتاح إبداع الجواهري في عشقه الحنون، وغضبه العاصف، ورحليه الدائم كالعاصفة، واحتضانه للمفاهيم الإنسانية العليا، تزهر في شعره كأنه الربيع، وهي أزهاره في تنوعها وتناغمها وتكاملها في لوحة الطبيعة العظمى، وفي شعرة الخالق الذي لا يفرق بين الناس لأجناسهم ولا لألوانهم ولا لغناهم وفقرهم.
ولقد كان “أبو فرات” تلميذاً نابغً في مدرسة شعراء الكفاح والسمو الإنساني، ووردة مخضلة عطرة في مدرسة شعراء الحب الداعين لإرسال الروح الإنسانية كالفراشات، لتحلق حيث شاءت في دنيا الجمال وعالم الخيال.
في شعر الجواهري تلك الإنسانية العالية، وتلك الروح المشتعلة المتطلعة إلى حرية مجد الإنسان، النابذة للضعف والخنوع والاستعباد، ولم يكن مجرّد شاعر صدّاح يتغنى كالبلابل ثم يطير مع أول صيحه، وإنما كان رجل موقف يقرط الشعر من روحه، ويحمله وشماً على جسده، وله من عصا يهش بها على المتعالين والمتكبّرين والمتجبّرين يسوقهم بها سوقاً إلى مزبلة التاريخ، وله منه فنار يضيء الدرب للحائرين ويبعث الدفء في المقرورين.
ظل الجواهري ذلك الطفل الذي لم يشب أبداً، الطفل الذي يغرف من ينابيع الحياة بسخاء، ويتطلّع إلى السماء بشوق، ويرتجف أمام الكلمة المضيئة، والكلمة الحارقة، حتى أربت كلماته المنتقاة على عشرات الألوف تحلق كالحمائم، وتضيء كالشهب، وتتدفق كالشلالات، في مدينة فريدة هي من صنع الجواهري، ومن إبداعه ومن خياله.
يعتلي الجواهري اليوم جيلاً من الكبرياء المترعة بالنور، ويمتد سهلاً من كلمات لا تعرف الموت، وعلى حوافيه البعيدة وتلاله الفسيحة تتناثر أحقاد الصغار الذين فضحتهم صلابة الشاعر، وعرّت مطامعهم عفة النفس الكبيرة.
رحم الله تعالى الجواهري الكبير.
الجواهري (2)
29 يوليو 1997
محمد مهدي الجواهري، آخر سلالة الشعراء الفرسان الغرباء المتمرّدين في الأدب العربي، ففيه من امرئ القيس عناء الطموح إلى المجد، وضعف تقصير “يوم الدجن”، حيث اللهو في كفة، وعالم الناس في الكفة المنشلة الخاسرة، وفيه من الصعاليك عشق المغالبة، وهوى المناجزة، ووجد الولوغ بين السيف والدم، وبين الليل والرمل، وبين رفاهة الغنى وجلد الفقر، وتلك العفة العذراء التي تطيل مطال الجوع حتى تميته، وتضرب عنه الذكر صفحاً فتذهل.
في الجواهري من طرفة بن العبد دلال الحياة على شاحب الموت، وسحب الذيل تيهاً على من يحرصون على الحياة حرص اللؤماء على دوانق العيش وفتات الرزق. وللجواهري نفس شموسة كنفس طرفة، فصاحة لا تبالي إن آمنت، ولا تداري إن أعلنت، لذلك فإن كوفيته المائلة فوق عينيه الوهاجتين كانت دائماً أنشودة الصقر المتأهب للإنقضاض، يجوس الفضاء بعينيه، وترصد أذناه نبض الشعر على مدار الكون… عين على الحانة، وأخرى على مجلس القوم.
في الجواهري من عمر بن أبي ربيعة ذلك الشجن المغامر، وتلك الروح المشعشعة المنجذبة إلى نيران الجمال، كالفراشة السَّكرى. وكانت السنوات التي قضاها في براغ عاصمة التشيك أشبه بفلتان مهر عربي في وادٍ أخضر فسيح، يشقّه نهر جار، فقد أخذ أبو فرات بالجمال السلافي الشهير، وبطيبة ذلك الشعب العريق، فغنى وصدح بأجمل قصائد الحب والغزل، وكأنه المعني بقول سلفه الشاعر العربي:
سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا
جبال حنين ما سقوني
لغنت |
في الجواهري من المتنبي استصغر الصعاب، واستمطار الخطوب، وتقحم الدروب الخطرة، ومثلما رحل المتنبي عن العراق وهو ينشد:
شيم الليالي أن تشكك
ناقتيصدري بها أفضى أم البيداء
ودهر ناسه ناس
صغاروإن كان لهم جثث
ضخاموما أنا منهم بالعيش
فيهمولكن معدن الذهب الرغام
|
كذلك رحل الجواهري وهو ينشد:
بماذا يخوفني الأرذلون
ومم تخاف صلال
الفلاأيمنع عنها نعيم
الرمالوحر الهجير وبرد
العرىويا دجلة الخير يا نبعاً
أفارقهعلى الكارهة بين الحين والحين
إني وردت عيون الماء
صافيةنبعاً فنبعاً فما كانت
لتروني |