أطل على جمهوره العريض من خلال ألبومه الغنائي الجديد (رسائل مغناة)، بعيداً عن حلبات (الديوك) المتقاتلة على مسارح الصيف التي يتدرب فيها الجمهور على سماع صوته لا صوت الفنان، وبعيداً عن مسالخ الفضائيات التي حولت تخت الغناء الشرقي إلى ملعب أكروبات يصارع فيه الفنان المسكين بكل ما أوتي من قوة لكي يجد لنفسه مكاناً بين (مكلّبات) الفيديو كليب الطائرة بسرعة البرق، والمتطايرة على رؤوس وأعين المتفجرين الذين لا حول لهم ولا قوة، وبعيداً عن الأسمار الخاصة حيث السرقات المكشوفة، وسرى الليل يا ساري من مكان إلى مكان، مثل عالمات زمان، وبعيداً أيضاً عن الصحافة الفنية التي استغنت عن الكلمات المتقاطعة بالرشقات المتاقطعة، تمرق كالسهام، وتدمدم كالصواريخ، من فم الفنان علان إلى قلب المبدع فلان “وكله من بضاعة: فين يوجعك؟”.
ولا تدري على ماذا، وهل ثمة وقت يبقى لروقان البال، ودندنة الألحان… ثم إذا كان الصعود كذلك فكيف يكون النزول…؟
المهم أن فناننا الكبير أبوبكر سالم بخبرة أربعين عاماً من الأصالة، وبتعتق 36 دناً من الألبومات المشعشعة، خلص إلينا من هذا الزحام الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، ليعيدنا إلى نبع الغناء الحقيقي، إلى الحياة بعظمتها وتنوعها واضطراب مشاربها، وعروق الحكمة التي تربط بين الحب والحرب، وبين الصحراء والجبال الخضراء، وحيث يصبح المحبوب وطناً مثلما عبر سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في كلمات أغنيته (حطني بعيونك وغمض)، كأن إغماضة المحب على الحبيب هي الأبدية السعيدة، والهناء الحقيقي، والمشاعر الخضراء المتوهجة بالنور والموسيقى، وتواشيح القلوب الشجية. وقد أجاد أبو أصيل في رسم مواويل العشق على جفون الساهرين تحت الشلالات الفضية لقمر الصحراء.
أبوبكر سالم مرجعية فنية متكاملة دون منازع، أبرز ما في تلك المرجعية أنها ليست تراث فرد مهما بلغ شأنه وعبقريته، ولكن هذا الفنان الكبير حمل بأمانة مسؤولية تراث شعب ومنطقة، وأضفى على ذلك التراث ذبذبات الموهبة المتفردة، وعمق الأداء المشبوب بعاطفة ملوعة، وألوان قوس قزح من صوت زكي يجمع إلى رجولة البداوة ترف أداء القصور، وإلى صهيل خيول البادية لمعان متاجر العطور في مدن العشاق. وكان في مسيرة الفن الجزيري في موقع الجمل القائد للركب، لا يلتفت إلى الوراء، ولا يخطئ الطريق إلى الأمام. وقد طال قطار القافلة منذ بدأ أبوبكر في عدن حوالي عام 1956م حتى ليبدو المنضمون حديثاً كأنهم بيوت النمل في الصحراء لمن تسلقوا الوهاد واعتلوا الكثبان العالية… وقس على ذلك مواقع ومواهب وادعاءات كثيرة.
لقد تخرجت من هذه المدرسة اليمنية الحضرمية البلفقيهية أجيال بعضها ساد وباد، وبعضها شق طريقه وتميز، وبعضها بهرتهم الأضواء فغشيت أبصارهم، وبعضهم إدّعى ملكية البحر ولمّا يسبح على الشاطئ… المهم أن المدرسة ظلت ضاربة أطنابها تصدّر وتنتج وتستقبل في عكاظ الفن كل من أنس في نفسه موهبة أو تنطّع إلى مسرح وميكروفون و “هذا الميدان يا حميدان”، وكان آخر جيل أو آخر دفعة تخرجت هي دفعة (الأحفاد)، ومنهم أصيل وراشد الماجد، وقبلهم عبدالله الرويشد وعبدالمجيد عبدالله، وأقدم منهم عبادي الجوهر وجيله، نزولاً إلى محمد عبده الذي ذكر أبوبكر سالم في مقابلة أخيرة أنه كان يلازمه في بيته وما زال أصيل يحبو… وبين أولاء وأولئك مطربون ملحنون مثل أحمد فتحي ملك العود الذي تربى على عيني أبوبكر وإن كابر، شأن كل فنان أصيل يريد أن يفرد جناحيه ليطير بعيداً عن عشّ أبيه.
وفي كل الأحوال فإن جميع هؤلاء هم أبناء التراث نفسه وورثته الشرعيون إنما هي مقامات وريادات واعتراف بالفضل لأهله وإلا لو دامت لغيرك ما وصلت إليك، ومن أكل من مال أبيه لا يجرم.
عندما غنّى أبوبكر في ألبومه الجديد (رسائل مغناة) أغنية (قلت له لا يبيع الجمل) أعاد للحكمة اعتبارها، حين يتلوّن الرمز بمضامين ضاربة في الثقافة، غزيرة الشعر، فسيحة الخيال، مما يهرب منه مؤلفو كلمات الأغاني…