إعلانات

ينفق العالم على الإعلانات سنوياً ثلاثمائة وخمسة وخمسين ألف مليون دولار أمريكي (355 بليون)، وهو رقمٌ فلكي يعطي صورة ساطعة عن عالم اليوم والمنافسة التجارية والصناعية والثقافية التي تسيّره وتعمل على غسيل أدمغته وبرمجتها ليل نهار، وعبر قنوات ووسائل وأساليب مدروسة لا تُحصى ولا تعد ولا يستطيع الفرد أو العائلة الهروب منها أو النجاة. تعمل هذه الآلة الهائلة لتسويق كل شيء يمكن أن يخطر ببال إنسان، ابتداء من نوع العصير وماركته الذي ينبغي عليه أن يتناوله عند إفاقته من النوم، ونكهة السيجارة التي تجعله جذاباً، وموديل السيارة التي تضعه في مصاف الشخصيات المرموقة، وحتى عطره ومعجون تنظيف أسنانه، وصولاً إلى فيلم السهرة والمخدّة التي يضع رأسه عليها ليصحو نشيطاً لوجبة الأربع وعشرين ساعة القادمة من الإعلانات التي لا شك أنها طاردته في أحلامه.

هذا الإختراق الأفقي والعمودي للحياة الإنسانية ليس مقصوراً على بسطاء الناس ومشتري السلع، وإنما يتصاعد إلى أعلى المستويات الإجتماعية ومراكز القرار، متلبساً زي الإعلام، ويذكر المراقبون في هذا الصدد بالتأثيرات الهائلة للإعلام الإعلاني أو الإعلان الإعلامي على مركز القرار في دولة عظمى مثل أمريكا، فقد لاحظوا أن تأثير الـ CNN على مركز القرار الأمريكي أوسع من تأثير الخبراء والمستشارين ومراكز الدفاع، ومن ذلك أنه في أزمة هاييتي توصل ممثل السكرتير العام للأمم المتحدة (دانتي كابور) إلى حل مرض لم يأخذ به الجانب الأمريكي لأسباب لا علاقة لها بالديمقراطية أو العدالة أو حقوق الشعوب، فقد أوصى (ليون بانيتا) رئيس أركان حرب البيت الأبيض الرئيس الأمريكي بيل كلينتون – وفقاً لما نشرته جردية نيويورك تايمز – قائلاً: “إن الرأي العام يتصوّرك طرياً ولا بد أن تمحو هذا الإنطباع من ذهنه، وأزمة هاييتي تعطيك الفرصة لذلك”. طبعاً كانت هذه التوصية مرتبطة بتأثير المحطات الفضائية ووسائل الإعلام على الرأي العام، وقد كان ما كان…

ويذكر أن نصيب الولايات المتحدة الأمريكية من إجمالي الإنفاق العالمي يبلغ 45% تقريباً، تنال منها الشبكات التلفزيونية حوالي 25 ألف مليون دولار سنوياً، وبينما كان تأثير هذه المحطات محلياً حتى وقت قريب فقد أصبح الآن يصل إلى أي كوخ في أدغال أفريقيا ويطوف العالم على مدار الساعة.
والإعلان شأنه شأن أي صناعة أخرى له جوانبه السلبية والإيجابية، ولكن عالميته الآن وسيطرة الغرب والشركات المتعددة الجنسية، وتحكّمها فيه يجعل منه خطراً محققاً على الثقافات والبنى الحضارية المغايرة، وخاصة بالنسبة للأجيال الشابة السريعة التأثر والقليلة المناعة. وفي أقطار مجلس التعاون الخليجي تقدر ميزانية الإعلانات لهذا العام بـ 250 مليون دولار، تتقاسمها المحطات التلفزيونية والمجلات، أما الجرائد اليومية فقد هبطت حصتها من 11% إلى 7% فقط حسب مؤشرات هذا العام، وهو مؤشر واضح لحركة الإعلانات والفئات المستهدفة…

الإعلان اليوم يعمل مثل المنوم المغناطيسي، والجمهور هو المريض الذي ينظر إلى الكرة البلورية، وفي داخل هذه الكرة 355 بليون دولار كفيلة بنزع أي مقاومة، وعل كل حال فما زال هذا أول الغيب.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s