أبوبكر سالم… العودة إلى (تريم)

مدينة تريم في حضرموت شرق اليمن، ربما لو قيست بموازين حضارة الإسمنت لن ترجح كفتها في الميزان، ولكنها بمقاييس الروح والعراقة والعطاء والإشعاع فهي شيء كبير. فتلك المدينة الصغيرة تضم 360 مسجداً، وقد عرفت عبر التاريخ كمركز علم، ومأوى أربطة خيرية، ومستقر لعائلات شهيرة تعني بشؤون الروح والتصوّف. أبوبكر سالم جاء من تلك المدينة، من واحدة من أعرق أسرها وأكثرها ابتعاداً عن عالم الغناء كما يوصف ويصنّف، ولكنها من أشدها إلتصاقاً به حين يُستبطن ويُعرف.

أليس الإنشاد الديني هو صبوات المؤمنين إلى جمال الله وجلاله؟ ومعراجهم إلى ملكوته وما تتنزل به ألطافه؟ أليس حداء القوافل – الذي اتخذه المتصوفه معادلاً موضوعياً لأشوقاهم – هو السياحة الأكثر ثراء في صبوات الإنشاد الديني وسياحة الجدائين تحت قمر الصحراء؟ حين ترك هذه المدينة – المتزمتة على السطح بينما الأنهار تجري من تحتها – لم يكن قد لامس الأعماق، فقط هي لامسته، ووعدته وعداً غامضاً أنها ستدله على ينابيعها في يوم ما، فكل شيء بأوان. لذلك فإن (سلامه) التي روى لي أبوبكر قصتها ذات يوم لم تكن من وحي خياله، وإنما من عرائس الشعر وربات الإلهام اللائي لا يعرف المرء إن كان قد رآهن أم لا، ولكنه يشعر أنه ممتلئ بهن حتى الثمالة.

حين ترك أبوبكر تريم نفض غبارها عن ملابسه وتمنى أن لا يتذكرها مرة أخرى، ولكن هيهات، دار الزمن دورته، وها هو بعد أن شرّق وغرّب يكتشف قبل فوات الأوان أن العودة إلى النبع هي التصالح مع الذات، وملامسة الفردوس الإنساني، واستعادة الومضات الحقيقية التي لا تنطفئ أبداً.
قبل أيام قضينا سهرة ممتعة مع أبوبكر في أحد فنادق أبوظبي، شاهدنا خلالها شريط الفيديو الذي انتجه عن بداياته الغنائية، واستعاد فيه ذلك الفجر المتماهي في الزمن. الشريط أشبه بالحلم فعلاً، فالراقصون والراقصات الذين قدِموا من حضرموت اندمجوا في الغناء لدرجة التلاشي، وكانت ملابسهم الفلكلورية وإيقاعاتهم التي يموّجها المزمار ويوقعها التصفيق وتطارد نغماتها الطبول والدفوف تنقلك إلى عوالم مختلفة، فأنا أنت على كثيب، وحينا على موجة ثالثة، وفي غابة أفريقية، ورابعة في محضر ديني، لقد عكست ذلك المزيج الحضاري لبنية وادي حضرموت، ولكن بتناسق عز نظيره، ينظر إليّ أبوبكر ليستشف رأييى دون أن يسأل، أبتسم… أقول له طبعاً لم يكفلك الكثير إنتاج هذا الشريط. يصرخ من الألم كأني قد أمسكته من حيث يتألم: “والله يا خوي فضل كلفني الشريط 205 آلاف دولار… خمس شقق استأجرتها للفرقة، و 3 ذبائح كل يوم، أجورهم وتذاكر الطيران وحتى الملابس، أما الكاميرا فإنها تخرج كل مرة بألف دولار سواء استخدمتها أم لم تستخدمها”. أستزيده فأقول: “طبعاً ربحت الكثير من وراء بيعه وتسويقه؟” يرد باستسلام وكأن الأمر قضاء وقدر: “والله يا خوي ولا العُشر”، أقول له بجدية: “أبوحضرم.. انس حكاية الفلوس، لقد انتجت عملاً يقوّم بالملايين، ولم يكن ممكناً أن ينتجه أحدٌ غيرك أبداً، لقد أنصفت نفسك وتاريخك ولم تنتظر أن ينصفحك الآخرون، وهكذا أثبت – مثلما أثبت في كل مرحلة من تاريخك الفني – أنك قادر على اجتراح الجديد الذي لا شبهة فيه”. يرتاح أبوبكر لهذا التحليل وتنفرج أسارير عيسى الجابر، ويأتينا صوت عبدالرحمن الأبنودي متحدثاً عن أبوبكر، واصفاً إياه بأنه أعظم مغني عربي – ولم يستثن الأبنودي أي أحد – بل أكد على هذا المعنى حتى لا يعتقد أي مستمع أن ذلك بمن باب السهو، ربط بين أبنود في صعيد مصر وتريم في حضرموت، وتحدث عن الجد والهوى قبل أن يولد المتحابون، سجل كيف التقط صوت أبوبكر للمرة الأولى بالصدفة، ثم كيف أخذ يبحث عنه: “يا أخوانا، حدا فيكم يعرف مغني اسمه أبوبكر سالم؟”. تحدث عن المفردة، عن الشعر، عن التضاريس والجغرافيا في الأصوات، كان حديثاً من القلب صادقاً وجريئاً. إذا شئت الدقة أكثر كان قصيدة شعر ولكن من النوع الرفيع.
عبدالكريم عبدالقادر كان نسمة من الحب، تحدث عن أبوبكر كأنه يتحدث عن أبيه أو عن ابنه، نعم، لا أدري كيف اختلط عليّ الأمر، فقد تحدث عن القيم وعن الأخلاق وعن التعامل والأستاذية في الأداء. تحدث ملحّن سعودي فجاءت كلماته تشع بالوفاء، تحدث عن أبوبكر الإنسان، وأبوبكر الفنان الذي ما زال صامداً ومتحدياً ومبدعاً منذ ما ينيف على 35 عاماً… تحدث عنه الكثيرون وليس المجال للإبداع.
أقول لأبوبكر: “أبوحضرم… لقد ربحت، لا لم تخسر أباً ولن تخسر”.
العودة إلى تريم، إغفاءة نسر في خريف العمر وهو يضرب الرياح بجناحيه، ويدمدم بالأغاني في وجه العاصفة ويبتسم للزمن الآتي.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s