الأيادي الخضراء

هذه من اوائل المقالات التي كتبها والدي عند بداية عمله في جريدة الاتحاد كمحرر وكاتب عام 1986


في الذكرى العشرين لتقلّد صاحب السّمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حكم إمارة أبوظبي يسجّل تاريخ العرب الحديث نشوء واستمرار وتأصل تجربة عربية وحدوية بُنيت على الحب والعطاء والعمل الصامت المخلص، وبدون شك فإن هذه التجربة الرائدة كانت مُلهمة لقيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية وستكون مُلهمة لوحدة عربية أكثر شمولاً يتطلع إليها العرب في كل أقطارهم.

إن الوحدة في فكر زايد مَلْمَحٌ أصيل وإيمانٌ راسخٌ عميق، استطعنا أن نتلمسها في كل خطواته في الداخل والخارج، وقد عبّر عن ذلك في اليوم الأول لتوليه الحكم بقوله:

“الإتحاد أمنيتي وهدفي الأسمى لشعب الإمارات العربية ولشعوب دول منطقة الخليج العربية كلها، وأنا في الحقيقة لا أقول شيئاً جديداً عندما أتحدث عن وحدة المنطقة؛ لأن الوحدة هي قدرنا منذ القدم”.

واليوم وبمناسبة الذكرى العشرين لعيد جلوس سموّه يخاطب رجال القوات المسلحة بقوله:

“لقد قلت لكم قبلاً أننا نعيش في عصر لا مكان فيه للدويلات الضعيف الهشة، وأنه لا بقاء إلا للكيانات العملاقة القوية اقتصادياً وبشرياً وعسكرياً”.

إذاً، فعلى امتداد 20 عاماً لم يُسقط الرجل الراية من يده برغم العواصف التي تعصف ببلاد العرب، وبرغم التجارب المُرّة قديماً وحديثا، فلم تكن قضية الوحدة مجرد لافتة إعلامية، أو دعاية موسمية، وعلى الرغم من أنّ تيار القومية العربية والوحدة العربية قد شهد انحساراً مؤلماً في منابعه الرئيسية.

إن الفكر الوحدوي لزايد هو استجابة مرهفة من ضمير حي لما يعتمل في نفوس العرب من المحيط إلى الخليج، وما يدعوهم إليه تاريخهم ودينهم ولغتهم ومستقبلهم، لذلك فإن الحب الشعبي العربي لهذا القائد لا يأتي من فراغ وإنما هو ظمأ التاريخ للقيادات التي تتسامى على الجرح، وللرجال الذين يضيئون نور المبادئ في الظلمات، ويغلّبون العام على الخاص، ويضربون المثل بأنفسهم وأهلهم قبل أن يدعوا إخوتهم ورفاقهم.

وهكذا، وببصيرة نافذة وبكلمات بسيطة صادقة نجد زايد يدفع بالوحدة في اتجاهها الصحيح حين يقول:

“إننا نرى في الوحدة التي يجب أن تقوم بين دول هذه المنطقة أن تكون وحدة بين شعوب هذه المنطقة لا بين حكّامها، لأن الشعوب أخلد وأبقى، وإننا نؤمن إيماناً مطلقاً بأهمية الوحدة بين دول المنطقة كأساس الوحدة العربية الشاملة”.

إذاً فالوحدة في فكر زايد ليست اجتهاداً وابتداعاً، وإنما هي عودة إلى الأصل وعودة إلى النبع، لأنها كانت في الأساس وبها أصبح العرب أمة في ظل الإسلام، وبها بنوا حضارتهم العظيمة، وبها نشروا الإسلام، وبها أصبح جانبهم منيعاً، والوحدة اليوم هي ضرورة حياة في رأي زايد بجانب كونها استمرارية تاريخ وحضارة، لأنه لا مكان للدويلات الضعيفة الهشّة، ولا بقاء إلا للكيانات العملاقة القوية اقتصادياً وبشرياً وعسكرياً، والوحدة عند زايد هي وحدة الشعوب لا الحكّام، لأن الشعوب خالدة والحكّام زائلون، وإذاً فينبغي أن نؤسس على ثوابت شعبية ومصالح راسخة، وأن تكون لُحمتها وسداها الحب والتكافل المشترك، ثم إن الطريق إلى الوحدة يمرّ باستمرار عبر خطوات وحدوية متنوّعة، فوحدة دولة الإمارات مدخل لوحدة المنطقة الخليجية، ومجلس التعاون خطوة نحو الوحدة العربية، لذلك فإن سياسة دولة الإمارات مؤسسة على هذه الفرضية النقية والسيلمة التي تغلّب عوامل القوة على عوامل الضعف، ودواعي الوحدة على دواعي الفرقة، والكلمة الطيبة على الكلمة الجارحة، واللقاء على التنابذ. وكما عبر أحد أترابه بصدق:”زايد يعامل الناس بالطيب لأن الطيب يكسر العظم الصلّب، ونظرة إلى علاقة الإمارات بجيرانها وإخوانها وأصدقائها تؤكد صدق وسلامة هذا المنحى”.

لذلك فقد كان الرئيس الجابوني دقيق التعبير عندما قال عقب لقائه بزايد في يناير 74:”إنه شخصية خارقة ومتطوّرة تجمع بين الحكمة وبعد النظر والتواضع”.

الإمارات الخضراء

من يصدّق أن هذه الأرض الطيبة التي نعيش عليها هي ابنة الصحراء والشواطئ الرملية والمياه القليلة المالحة؟! إن من يمشي اليوم في مدن الإمارات يتصوّر نفسه في بلاد أنهار على ضفاف بلاد الرافدين، أو في دلتا النيل، أو في تونس الخضراء، وعندما يتأمل الجهد الإنساني الخارق والحب الذي صنع هذه الخضرة شجرة شجرة، ووردة وردة، يشعر بعظمة المعجزة وعظمة الإنسان الذي يكنّ كل هذا الحب للحياة، ويبذل كل هذا البذل لعمار الأرض.

إن هذا المنهج الذي حوّل الصحراء إلى أرض خضراء، وحوّل الكثبان الرملية إلى ناطحات سحاب، وشق طرق المواصلات الحديثة هو المنهج نفسه الذي صمم على الحب لأن الحب لا يتجزأ لذلك تجد أمامك هذه الأيادي الخضراء حيثما اتجهت في العين، في دلما، في مدينة زايد، في أبوظبي، في دبي، في الفجيرة وفي كل مكان، لأن المشروع المؤسس على الخير لن يكون عطاؤه غير الخير.

ومنهج الخير يتجه إلى الإنسان، إلى أمنه وتعليمه ورفاهيته وتأمين مستقبله، ورفعة شأن وطنه ليكون هو مرفوع الرأس أينما ذهب، لذلك نجد أن عدد طلاب الإمارات تضاعف 18 مرة منذ عام 1966، كما تضاعفت المدارس عشر مرات، وفي جامعة الإمارات اليوم أكثر من خمسة آلالف طالب، وقد وصل عدد خرّيجيها إلى 4270 طالباً.

وقد يقول البعض أن الإمكانيات المادية صنعت هذا التطوّر، والحقيقة إن هذه الإمكانيات إذا لم يكن وراءها حكمة وحسن بصيرة فإنها ربما انقلبت وبالاً، وذلك ما تعانيه كثير من الشعوب التي استبدت بها حماقة القوة أو بطرة المال، لأن الدول كالأفراد منها ما يستفيد بموارده ومنها ما يحطّم نفسه بتلك الموارد ويكسب سوء السمعة بدلاً من السمعة الحسنة، كما إن العمل الصالح والقدوة الحسنة لا يقتصران على ظرف دون ظرف، وأذكر هنا كلمات (سالم بن حم) الذي رافق زايد منذ طفولته:

“عندما جاء زايد إلى العين لم تكن هناك ثروة، كان الوضع يختلف تماماً، ومع هذا أخذ يعمّر برغم أنه لم يكن يملك شيئاً”.

ثم يقول في حكمته المتواضعة العظيمة في بساطتها:

“كان يمشي الشيء بدون مادة… فكيف إذا وجدت المادة، إذا العبرة في المنهج وفي النية الحسنة وبعد النظر الذي يرى المستقبل قبل الحاضر”.

ومن هنا فإن زايد ميز بين نوعين من الثروة في قوله:

“إن بناء الرجال أصعب بكثير من بناء المصانع، وإن الدول المتقدمة لا تُقاس بما لديها من أموال، وإنما تقاس بعدد أبنائها المتعلّمين”.

بقيت كلمة أخيرة وكانت قد وصلتني اليوم جرائد الشطر الشمالي من وطني اليمن، وفيها أنباء اكتمال المرحلة الأولى من بناء سد مأرب العظيم، واحتفالات الشعب اليمني بهذه المناسبة، وتجربة بوابات السد التي تدفقت منها المياه إلى أرض الجنتين، الأرض التي يحملها كل عربي في أعماقه وفي وجدانه…

إن أرض الجنتين قد امتدت إليها يد الخير من زايد في أعظم مشروع يرتبط بتاريخ اليمن وتاريخ العرب منذ “تفرقوا أيدي سبأ” في أرجاء الأرض، وقد تجاوبت السماء مع هذا العطاء فجاءت الأمطار تتدفق، ثم تجاوبت الأرض فتفجـّر البترول في تلك المنطقة بالذات ليصنع ملامح اليمن السعيد.

وعندما يذهب صاحب السّمو الشيخ زايد بن سلطان قريباً لافتتاح سد مأرب فسيكون ذلك الحدث إيذاناً بتدشين مرحلة جديدة من مسيرة الحب والإخوة داخل الجزيرة العربية.

One comment

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s